كان مالك شديد الحرص على بر والده ومساعدته في معمل الحلويات الخاص بهم، ينزل كل يوم باكرًا ليأخذ صواني البقلاوة، فيضعها على رأسه فوق الوسادة الصغيرة لتحفظ له توازنه، وينطلق على دراجته الهوائية سعيدًا بعمله، وهو يصفّر أنغامه المفضلة، ويوزع منتجات والده على المحال في منطقتهم. كان يمر دائمًا تحت بيتها مطلقًا جرس الدراجة كي تطل بوجهها عليه، فتبتسم له ابتسامتها الأخّاذة، فينطلق بنشاط وهمة بعد ازدياد خفقات قلبه وسريان الدم متدفقًا في شرايينه.
هكذا بدأت قصة حبهما، لكن هذا الحب لم يدم طويلًا، فعندما فاتح والدته برغبته في الزواج من ماجدة ابنة الجيران ثار غضبها عليه، ورفضت الفكرة من أساسها، فعائلتها لم تكن ذات صيت جيد في الحي، أصّر عليها وهددها بأنه سيسجن نفسه إن لم ترضخ لطلبه، لكن أمه كانت أقوى من أن تستسلم لأسلوبه المعاند. التزم غرفته شهرًا ظنًا منه أنه سيغير من إصرارها،لكنه كان مخطئًا، إذ كانت تخطط له زواجًا تقليديًّا من صبيةٍ سليلةَ عائلة مرموقة، وعلى الرغم من قلبه المكسور إلا أن بره لأمه تغلب على عواطفه فانساق لإرادتها.
وبعد زواجه صار يساعد والد زوجته في عمله، فتعلم منه "الصرافة" إذ وجد فيها المهنة التي يحب، فاستأذن والده واستدان منه مبلغًا من المال لأنه يريد الاعتماد على نفسه، فما كان من والده إلا أن أعطاه ما يريد، ودعا له بالتوفيق والرزق الوفير. وبعد شهور قليلة سدد المبلغ كاملًا لوالده بعد أن جنى أرباحًا كثيرة، لكن ما هي إلا سنوات قليلة حتى تمت الوحدة بين مصر وسوريا، وأعلن عبد الناصر قراره الذي اعتبره الكثيرون جائرًا فأمر بتأميم أملاك الأغنياء، وملاحقة الصرافين وزجهم في السجون، ولسوء حظه كان ضمن الدفعة الأولى التي تمت ملاحقتهم في منطقة "باب بريد" في دمشق القديمة، فاقتيد إلى سجن القلعة ومكث فيه سنة ونصف السنة، وهنا ابتدأت قصة عذاب صباح مع زوجها مالك، إذ كانت تحضر مع أولادها اسبوعيًّا إلى السجن لزيارته والاطمئنان على صحته، لكنها لم تكن تعلم أن الوحدة في السجن، والبعد عن عائلته قد فتح له الحنين إلى الحب الأول والبكاء على الأطلال، وفي أحد الزيارات انتبهت لمناداته إياها باسم لم تسمعه سابقًا "ماجدة".. "ترى من هي ماجدة؟!!" أسرّتها في نفسها ولم تبدها له بسبب محنته، لكن... شيء ما عصر قلبها خوفًا وقلقًا، فجافاها النوم ليالي طويلة، وملأ التفكير أوقاتها، فلم تعد تعرف طعم الراحة.
بعد إخلاء سبيله، لم يكن همه إلا مغادرة دمشق بأسرع وقت ممكن، فكانت وجهته إلى بيروت حيث الحرية والاستقرار. وفي ليلة من ليالي الصفاء فاتحته زوجته بما أرّق لياليها من أفكار فأخبرها القصة كاملة، واعترف لها بأن في قلبه شيء ما تجاه "ماجدة" وأنه سينساها مع الوقت. لكنه لم يكن يعلم أنه قد فتح باب الشك في قلبها، فصارت تراقبه وتلاحقه للتأكد من صدقه، إلا أنها اكتشفت خيانته لها، وبعد مواجهته بالحقيقة الصادمة أخبرها بأن زواجه منها لم يكن إلا لإرضاء والدته.
لم تكن تملك حيلة إلا الرضى بما قسم والبقاء على تربية أبنائها والاهتمام بهم، باعت قلبها لتراعاهم، فهم روحها التي تعيش بها، لكنه لم ينسى الفضل بينهما فكان ينفق على أبنائه ويراعاهم بكل محبة وحنان، وفي الوقت نفسه كان يبحث جاهدًا عن حبه الأول "ماجدة" ويتتبع أطراف الأخبار ليعرف مكانها، كي يهدأ قلبه، إلا أن ملاحقة الصرافين في دمشق حالت دون رجوعه للبحث عنها، فأوكل هذه المهمة إلى صديق طفولته "نادر" الذي تجنّد للبحث عنها علّه ينقذ بيت وقلب صاحبه، وبعد عناء شديد وبحث طويل علم أن اللعنة قد حلت على عائلة "ماجدة" التي قتلها زوجها، فأرسل نادر رسالة فاكس لصديقه ناصحًا:
يا رفيق الدرب حافظ على عيلتك وزوجتك وانسى الماضي لأنه ثوب ما بيناسبك عتبته عوجاء وانكسرت.